الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال الزمخشري: كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى.وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى {عميًا} عما يسرهم، {بكمًا} عن التكلم بحجة {صمًا} عما ينفعهم.وقيل: {عميًا} عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه، {بكمًا} عن مخاطبة الله، {صمًا} عما مدح الله به أولياءه، وانتصب {عميًا} وما بعده على الحال والعامل فيها {نحشرهم}.وقيل: يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله: {قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فعلى هذا تكون حالًا مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارنًا لهم وقت الحشر.{كلما خبت} قال ابن عباس: كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير، فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور، فعلى هذا يكون {خبت} مجازًا عن سكون لهبها مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله: {ذلك جزاؤهم} والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزًا لقدرته.وتقدم الكلام على قوله: {وقالوا أئذا كنا عظامًا ورفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا} في هذه السورة فأغنى عن إعادته، ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال: {أو لم يروا} وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما حله وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، ومعنى {مثلهم} من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقًا منهن كما قال {أأنتم أشد خلقًا أم السماء} وإذا كان قادرًا على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} وهو أهون عليه. وعطف قوله: {وجعل لهم} على قوله: {أو لم يروا} لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت {وجعل لهم} أي للعالمين ذلك {أجلًا لا ريب فيه} وهو الموت أو القيامة، وليس هذا الجعل واحدًا في الاستفهام المتضمن التقرير، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال: {فأبى الظالمون} وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء {إلاّ كفورًا} جحودًا لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وبعثهم يوم القيامة للجزاء.{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}.مناسبة قوله: {قل لو أنتم تملكون خزائن} الآية أن المشركين قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا.فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية.وقاله العسكري: والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحًا بذلك لا يطلب منهم أجرًا، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال: لو ملكوا التصرف في {خزائن رحمة} الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة، هذا مع ما أوتوه من الخزائن، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه، والمستقرأ في {لو} التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضيًا وإما مضارعًا.كقوله: {لو نشاء لجعلناه حطامًا} أو منفيًا بلم أو أن وهنا في قوله: {قل لو أنتم تملكون} وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله:
التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار {أنتم}، وهذا التخريج بناء على أن {لو} يليها الفعل ظاهرًا ومضمرًا في فصيح الكلام، وهذا ليس بمذهب البصريين.قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهر أو لا يليها مضمرًا إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل: ما جاء في المثل من قولهم: وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ: البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح، ويجيزونه شاذًا كقولهم: وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} فهو من باب الاشتغال انتهى.وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان، والتقدير {قل لو} كنتم {أنتم} تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي {أنتم} توكيدًا لذلك الضمير المحذوف مع الفعل، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلًا بها، والتقدير {قل لو} كنتم {تملكون} فلما حذف الفعل انفصل المرفوع، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد {لو} معهود في لسان العرب، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه.والكلام على {إذًا لأمسكتم} تقدم نظيره في قوله: {إذًا لأذقناك} و{خشية} مفعول من أجله، والظاهر أن {الإنفاق} على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف، أي {خشية} عاقبة {الإنفاق} وهو النفاد.وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، فيكون المعنى خشية الافتقار.والقتور الممسك البخيل {والإنسان} هنا للجنس. اهـ.
وفائدة ذلك المبالغةُ والدلالةُ على الاختصاص.{أَذًِا لأمْسَكْتُمْ} لبخِلتم {خَشْيَةَ الإنفاق} إذ ليس في الدنيا أحدٌ إلا وهو يختار النفعَ لنفسه، ولو آثر غيرَه بشيء فإنما يُؤثره لِعَوض يفوقه، فإذن هو بخيلٌ بالإضافة إلى جودِ الله سبحانه: {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} مبالغًا في البخل لأن مبْنى أمرِه على الحاجة والضِّنّة بما يحتاج إليه وملاحظةِ العِوضِ بما يبذُله. اهـ.
|